dimanche 20 septembre 2015

كان الصيف في أشد حرارته، حيث بدأ الكثير يخطط  للسفر والراحة لتجديد طاقة تبددت، فيما تهيأت عائلات وتحيّنت الفرصة وراحت ترتّب لمراسيم وحفلات زفاف أبنائها وبناتها.


 كانت عائلة “ريم” ترتب بدورها لزفاف شقيقها الصغير.. بدأت الدعوات تصل الأقارب والأهل والجيران، واقترب موعد العرس، ولم تتبق إلا أياما قليلة. كانت سعيدة للغاية وكأنه يوم عرسها، وكانت تتحدث عن شقيقها كثيرا، ودون توقف، وتتشوق لليوم الموعود، يوم فرحه، فهي من اعتنت به وهو صغير، وكفلته وتكفّلت به، وأحاطته بحنان وكأنها والدته، وتهيأت وتزينت ولبست الجميل، وتعطّرت، ووضعت الحناء في يديها ويدي ابنتيها الملاكين، ودقت الطبول، وبدأ الناس يتوافدون لحضور الفرح
وفي لحظة خلوة وصمت هادئ، وهي تتفرج في المرآة وترتّب نفسها، عاد شريط زواجها فجأة وتبدّلت مسرتها وعلاها حزن غير محسوب، وراحت تسبح في تاريخ ذكرياتها الأولى، حتى سكنت كل حركة فيها وحدقت بحدة في صورتها وكأن الزمن توقف

تذكرت يوم طارت فرحا حين تقدم شاب طويل القامة، وسيم الملمح صبوح الوجه، يطلب يدها من أهلها. كانت فكرة الزواج صعبة القبول من عائلتها، فهي لا تعرف عنه شيئا وهو الغريب عن بلدتها، حيث تعرفت عليه حديثا، حينما زار مكتبها المتواضع في الهندسة والبناء للسؤال والاستشارة، مقدما نفسه على أنه صاحب مؤسسة في البناء.. تكررت الزيارة، وربطتهما علاقة تولدت عن عمل بينهما، واتفقا سريعا على الزواج، ولم يتأخر في قصد عائلتها وطلبها رسميا. كانت العائلة ترغب في زواج من قريب تعرفه، لكن القدر فعل سحره، واختارت هي، واختار هو شريكته الحسناء، وتم الزفاف... 
مرت الأيام ورزقا بابنتهما الأولى، ثم ببنت ثانية.. كانتا ملاكين كالبدر، لكن فرحتهما بصغيرتيهما لم تكتمل، وبدأت  المشاكل تطفو، وتعقدت حياتهما يوما بعد يوم.. كثر الشجار من جانب واحد، ظهرت حقيقة لم تكن لتعالج ببساطة؛ اكتشفت الزوجة الحسناء أن زوجها خدعها وكذب عليها، حينما ادّعى أنه صاحب مقاولة، وطلب منها التوقف عن العمل ففعلت، لكن حقيقته لم تزد على أنه  (مساعد بنّاء).. ليس هذا فقط بل كان يقيم معها في مسكن والديها، وأحيانا لا يعمل ويظل مرابطا في غرفته لا يخرج أبدا، وكان ذلك يزيد في غضبها  وثورتها، لتبدأ في شتمه ولا تتوقف إلا بعد أن تتعب. والمصيبة أن فارس الأحلام كان يكتم ولا يرد إطلاقا، ويلتزم صمتا عميقا، وينسحب من ميدان المعركة دون مواجهة.

لم تتحسن العشرة بين الزوجين، ولم يكن الجميع راض عن حياتهما، ووجدت الزوجة سندا وحمية من عائلتها ضد زوجها، وهم من كانوا سابقا يعارضون ويعترضون على مشروع زواجها من غريب لا يعرفون فصله من أصله، وفقدت الزوجة الضحية كل آمالها في من كانت تراه “قيس” وتحسب أنها “ليلى” زمانها، فاستسلمت للوساوس ولنفسيتها المنهارة، واستجمعت كل ما لديها من قوة وواجهته بطلب ربما لم يكن يتوقعه، فراحت تقول بملء فمها: “أريد الطلاق، وأطلب منك أن تترك بيتنا وترحل”.. نزل الكلام باردا كالثلج على مسامعه، شعر بإهانة كبيرة، ووجد نفسه في مشهد درامي لوحده.. الجميع كان يختلف معه ويوافقون ابنتهم، وضاقت بين عينيه الدنيا ولم يتحمّل، لكنه كتم مثل كل مرة ولم يُجب، فيما هي بقيت تُصرّ وتُلحّ كلما قابلته أن يعتقها ويعتق ابنتيهما من كذبته. وطال الحال ولم يستقم

أقبل الجميع يفرح بزفاف شقيق الزوجة تعيسة الحظ؛ كانت السعادة تغمرها، استعدت ليوم العرس وكأنه يوم فرحها، فتجملت ولبست أحسن ما لديها من هندام، وتغيرت ملامحها، وظهر بريق من النور على محياها، وارتسمت عليها ابتسامة لطالما غابت عنها، وهي وسط كل تلك المسرة والفرحة يأتيها اتصال هاتفي من زوجها يطلبها في عجلة.. تسللت بعد أن استأذنت والدتها وأخذت معها صغيرتيها الملاكين.. لم يكن المسكن بعيدا. وجدته ينتظرها وما هي إلا ثوان حتى تشاحنا وارتفع صوتها، وعاودت طلبها على مسامعه “طلقني.. طلقني، لم أعد أطيق الحياة معك”.. كان كعادته ساكنا في ظاهره، لكن بركانا من الثورة والهواجس بدأت بداخله تطفو وتسري في دمه وعروقه، وهي توجه إليه كلاما اعتبره مهينا وجارحا، لتجد نفسها بين يديه مثل الدمية، يصنع بها ما يريد، دون أن تقدر على مقاومته والدفاع عن نفسها، وتسارعت دقات قلبيهما ليتوقف كل شيء بينهما 

وفي لحظة زمن سريعة جدا، حمل سكينا وأسقطها أرضا بعنف شديد، ووضع رأسها على ركبته .. حاولت الإفلات من بين يديه وهي تقاوم وتصرخ، ولكنها أحست بشلل في جسمها أعجزها، وشعرت بنهايتها تقترب.. أما هو، فلم يكن يسمع إلا صوتا باطنيا يهتف ويدفع به ويأمره بالتخلص منها ومن لسانها.. لم يعد يحتمل نقدها وهي تعيّره صباح كل يوم ومساءه، .. بقي يحدق فيها دون رمش وهي تصرخ، لكنه لم يكن يسمع شيئا، وما هي إلا ثوان حتى توقف كل شيء، وأفلتت يدها قميصه وسقطت أرضا.. قبّل جبينها وطرحها بهدوء وفي رفق، وكأنه يضع شيئا من زجاج ويخاف أن يتحطم أو يهشّم.. نهض ولما استدار رأى صغيرتيه مسمّرتين نحو جثة والدتهما، وقد تجمدت كل حركة بجسميهما الضعيف، وهما الشاهدتان غير المدركتين لما حصل.. أخذ بيديهما وهو لا يتكلم، وخرج في هدوء تام، ورافقهما إلى مكان العرس، وغادر ليسلّم نفسه لمصالح الأمن، ويبلغ عن جريمة هو فاعلها.

لم يجد قاضي محكمة الجنايات والقاضي المحقق من صعوبات في فك طلاسم الجريمة تلك.. كان الزوج مدركا لكل فعل قام به، واختصر التحري والتحقيق فاعترف بكل شيء، كعادته، في هدوء تام. لم يعقّد من البحث عن الحقيقة الكاملة، فنطق القاضي بأنه محكوم عليه بالإعدام. 
كان الزوج المتهم ساكنا ينتظر الحكم دون أن يتأثر أو يفاجأ إطلاقا، رافق الشرطي إلى سجنه، وأطلق، وهو يسير مقيّدا، نظرات شفقة طويلة إلى والد زوجته الضحية، وكأنه أراد أن يقول له: "اعتن بصغيرتي الملاكين.. فأنا لن أعود.".


Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire