samedi 1 octobre 2016


خلال إحدى الثورات التي أطلق عنها الغرب تسمية  "الربيع العربي" دارت حرب شرسة بين أحد  الحكام  ورعيته، كانت الغلبة فيها في النهاية  للشعب وقتل الطاغية، بينما فر من نجا من أفراد عائلته وتشتت شملهم في البلاد وخارجها ،وكان من بينهم ابنه الصغير الذي تنكر في هيئة متسول بإحدى المدن  كيلا يتعرف الناس عنه  فينتقمون منه. غير أن الشاب لم يكن متعودا على المبيت في الشوارع وتناول  ما يتصدق به المحسنون عليه ، فاظطر للبحث عن مأوى يقيه شر البرد . بحث حتى وجد خبازا وظفه وآواه  . لكن سرعان ما اكتشف الخباز أن الشاب لا يفقه في تحضير و طهي الخبز مما  جعله   يندم على تصرفه. فقام بعد أيام قليلة بطرده من المحل. ذات ليلة مظلمة وبينما كان الشاب  يتنقل في الشوارع بحثا عن ملجأ إذ به يبصر أمامه على بعد أمتار قليلة رجلا  يمشي الهوينا تارة ويسرع طورا آخر ويقوم بحركات  تنم عن غيظ  أو احباط .ظنه في الوهلة الأولى مجنونا وراح يراقب تصرفاته خائفا متأهبا لكل سوء قد يصيبه .  فجأة ، توقف الرجل وأخرج من جيبه شيئا يلمع ورمى به أرضا ثم ما لبث أن جرى وهو يغمغم  كلمات لم يتمكن الشاب من سماعها. دنا الشاب من المكان الذي رمى به الرجل الشئ ، فرأى جهاز هاتف خلوي . نظر يمينا وشمالا كأنه يريد أن يتحقق من خلو المكان من المارة .ثم أخذ الجهاز وانطلق مسرعا دون التفاتة وهو يمني نفسه" بصيد" عظيم. وما أن ابتعد بأحد الأزقة حتى توقف قرب مصباح عمود كهربائى وأخرج الهاتف ليتحقق من غنيمته . وبينما هو يتأمله  اذ بالجهاز يرن. "تجمد" االشاب في مكانه فاتحا فاه. هل يرد أم يتجاهل؟  ابتلع ريقه ثم  قال في تلعثم – من أنـــت ؟
جاءه الرد على الفور: – أنا خادمك الأمين. أراك أخذت الهاتف وذلك ما كنت أبغي،  لا تنزعج  مني فأنا أعرف من تكون وسوف أساعدك في محنتك التي تمر بها. دعني أعرفك بنفسي أنا (توماس.)..  الناس يسمونني (توماس العربي) . تراجع الشاب الى الوراء وتأهب لرمي الجهاز والفرار بعيدا وهو يردد  مرتعشا: لقد اكتشف أمري .وكأن"توماس" شعر بما يجول في خاطر الفتى فقال مترجيا: – من فضلك ، اسمعني. اطلب ما تشاء وستجدني في الخدمة. تماسك الشاب وجمع قواه ورد – إن كنت خادمي و تعلم من أكون فأعني علر استرداد مجدي الضائع. قال "توماس" – سوف أفعل، لكن قبل أن أحقق لك مطمعك ،علي أن أجرب صدق نواياك.
هدأ الشاب من روعه  قليلا وأحس باطمئنان  بعد خوف  فقال :–  إن كنت صادقا فيما  تقول فأعني على الحصول على مأوى، ولو مؤقتا..رد ( توماس): لك ما تشاء، اتبع  ارشاداتي وفقط .سار  إلى حيث أمره الرجل،  فوجد بيتا خاليا  قديما بعيدا عن الأنظار.
قضى الرجل الليلة في الدفء ولما أصبح ،اندفع خارج البيت خوفا من أن يفاجئه أحد.  فابتعد عن العيان بغابة قريبة وأخرج الهاتف من جيبه ثم اتصل ب" توماس العربي" . وما هي إلا لحظات حتى سمع الرجل يقول: مرحبا، ماهي طلباتك؟


-أريد طعاما شهيا  وشرابا لذيذا... رد الشاب مبتهجا.  سيكون لك ذلك وكل ما طلبت ، لكن بعد أن تلبي لي طلبي الأول. فأنا لي مثلك مطالب .
أحس الشاب بخيبة أمل تساوره وهو الذي كان يحلم بتحقيق أشياء كثيرة بمساعدة من ( توماس). سوف ينتقم من أولئك الذين خانوا والده  وسوف يحول انتكاساته الى انتصارات. رد بملل :- ما المطلوب مني فعله ؟
قال ( تواس): - عمل سهل وبسيط، لا يكلفك جهدا.
وما هو ؟ رد الشاب مستفسرا متعجلا ؟
قال ( توماس) :- أن تكذب على الناس..
ظن الشاب لحظة أن الرجل مجنونا حقا، أو يريد أن يمزح. فرد غاضبا: - الوقت غير موات  للعب يا سيدي.
قال الرجل : - هل تريد أن تتعامل معي أم أن مصيرك سيكون كسابقيك.
فكر الشاب وقال في نفسه: وماذا أخسر لو جربت ؟ ثم أجاب محدثه : - لا بأس من خوض التجربة.
ضحك ( توماس) وقد ظفر بما يريد فأضاف:- سوف أعطيك عن كل كذبة مالا كثيرا، يمكنك من شراء السلاح وتجنيد العملاء والمرتزقة، وكلما تفـنـنـت في صنع الأكاذيب رفعت أجرك أكثر فأكثر.
قال الشاب في تلهف وقد سال لعابه: - هيا هات المال ودعني أفكر في أول كذبة.
استدل الشاب بتوصيات الرجل فحصل على مبلغ غير زهيد من المال.
انتقل إلى مسكن لائق بحي راق ولم يبق أمامه الا الشروع في المهمة الموكلة له من الرجل الخفي.
استغرق في البحث طويلا الى أن اهتدى الى كذبة  تمنى أن يصدقها الناس.فتوجه الى هاتف عمومي بالقرب من أكبر ساحة بالمدينة وشكل رقم الشرطة  وهمس. ( ألو. أنا فاعل خير. أحذركم منوجود قنبلة بساحة الزهور، ستنفجر بعد قليل.) وضع السماعة وانصرف على عجل. دخل أقرب مقهى، طلب فنجان قهوة وراح ينتظر.أحس بالذنب جراء ما فعل. لم يكن متعودا. 
فجأة ، دوت صفارات سيارات الشرطة بساحة الزهور وأخلي المكان ووضعت الحواجز.وسرعان ما غص الموقع برجال الأمن. بعد تفتيش وحث لم تعثر الشرطة على أي شيء خطير، فعادت الحركة من جديد.
عاد الشاب الى إقامته، أخرج هاتفه ونادى ( توماس). سر الرجل وأضاف أنه شاهد الواقعة وفرح بما أصاب الناس من هلع.
أخبر (توماس) بالمبلغ الذي سوف يتقاضاه إن هو أبدع في الكذبة الموالية ، فوعده الشاب بالأفضلفي القريب العاجل.
بعد شهر عن حادثة الساحة قام الشاب مستعملا نفس الوسيلة والطريقة بإبلاغ الشرطة بوجود انتحاري مدجج بعبوات ناسفة داخل الملعب البلدي للمدينة. هرع رجال الأمن الى عين المكان فأخلوه مما فيه ولم يتم العثور على أي إرهابي.
قطعت الأذاعة والتلفزيون برامجها لتنشر الخبر العاجل الوارد من الحكومة والتي دعت بالمناسبة المواطنين الى توخي الحذر والإبلاغ عن كل مشتبه به. نال الشاب  ما وعده  به ( توماس) من مال.
كان الشاب بأشد الحاجة للمال كي يجمع قواه ويحقق ما يصبو اليه فاجتهد في اختراع كذبة مدوية نفذها  فآتت أكلها فأخبربها صديقه ( توماس) ومفادها أن البطاطا مصابة بداء فيروسي وغير صالحة للإستهلاك، مما انجر عنه عزوف الناس عن شرائها مكلفا خزينة الدولة والفلاحين والتجار خسائر بالملايين.

الآن وقد جمع الشاب المال بما فيه الكفاية  فقد انتقل الى المرحلة الثانية من اتفاقه ( توماس العربي) وهي استعادة عرشه المسلوب.
قال ( توماس) – الآن وقد صرت  من أكبر الكذابين  ولك المال الوفير فيمكنك البدء في الحرب على أعدائك.
الشاب – ولكن كيف لي أن أخوض حربا  لا أفقه من فنونها شيئا.
- لا تقلق. قال العفريت , سأكون ساعدك الأيمن .  ابحث في الأحياء الفقيرة عن المستضعفين والمساكين وخاصة الشباب من قاطني الأكواخ والمتسكعين في الشوارع ، صاحبهم واجلبهم اليك بمالك، فانفق عليهم  وعاونهم وشاركهم في الرأي وقل لهم أن ما يعيشونه غبن وظلم يجب رفعه. لا تيأس. أعد الكرة مرات ومرات واعمل في سرية. لا تلفت اليك الشبهات.   لما انتهى الرجل من سرد نصائحه , قام الشاب فخبأ  الهاتف داخل المسكن، واستعد للمرحلة المقبلة  و الحاسمة .
بعد مدة  بدأ الشاب تنفيذ الخطة, فجمع من حولة أناسا أغواهم بالمال جعلهم  يثقون به ويثق بهم. جهزهم بالسلاح  المتوفر من أسلحة بيضاء وبنادق الصيد وسكاكين. أطلق على جماعاته تسميات "جهادية" مختلفة .بدأ في سلسلة من العمليات الترهيبية  والدعائية , فالتف حوله الطامعون في المال وفي السلطة واتسعت رقعة نفوذه لتشمل القرى والجبال.
لم يتفطن حكام البلد في بادئ الأمر إلى ما آل اليه حال الناس من هول وفجع وتنكيل وتقتيل. فقد كانوا يتناحرون فيما بينهم حول "من يحكم من" ويسارعون إلى نهب مال الشعب.ولما استيقظوا على وقع دوي التفجيرات والحرق والتدمير وأحسوا بالخطر يداهمهم ويهدد مصالحهم  لم يتوانوا لحظة  في الأستنجاد  ب"توماسهم" من وراء البحار. دارت معارك شرسة . أحرقت الديار والثمار,شردت أسر, قتلت أرواح بريئة.طال النزاع واشتد وككل حرب فإن الخاسرفيها من لا يملك العدة والعتاد وكذلك كان حال الشاب.
أحس الشاب بضعف قواته وكان لزاما عليه تجديد قدرات رجاله  ففكر في الإستنجاد ب( توماسه) . عاد الى المدينة  منهكا مكسور الجناح ومرهقا. وكم كانت الصدمة شديدة لما رأى البيت الذي يأوي الهاتف  قد هد عن آخره فلم يعد سوى مجرد  ركام  من الطوب  والتراب. ذعر لهول الفاجعة. ما العمل ورجاله هنالك  في انتظار  الإمدادات..
لا بد من خلاص والخلاص يكمن في الهروب  ولكن هذه المرة خارج الوطن. فالخطر كبير والعقاب سيكون أشد إن ألقي عنه القبض. آه يا ( توماسي)... تخليت عني في الوقت العسير.. ما العمل؟؟؟
حل الظلام فآوى الى بيت هجره أهله جراء الهول  وانزوى بركن من أركانه  يفكر في حل  ...نال منه التعب وأخذه النعاس قليلا . أيقظته صيحـــات الجنود المتعالية المهددة:
- لا تـتـحرك، ارفع يديك إلى الأعلى . اقترب منه أحد الضباط وصوب نحو وجهه المصباح اليدوي ثم صاح مهللا –  هو... انه هو...

......بعد أيام من إلقاء القبض عنه ، ظهر الشاب على شاشات التلفزيون العالمية  بلباس برتقالي اللون وهومكبل اليدين والرجلين مهرولا بأحد أقفاص سجن "خوانتانامـــو".

jeudi 17 mars 2016


أركضُ وأركضُ .. أصواتُ أقدامِ الجنودِ خلفي تماماً , لا بدَّ أنني كنتُ قريباً من سيّارةِ الدوريَّة أكثرَ ممَّا يلزمُ عندما قذفتُها بحجرٍ .. أتابعُ الجريَ و أرى أماميَ مباشرةً صديقيَ رامي .. إنـّهُ أسرعُ منـّي بكثيرٍ , وها هوَ يبتعدُ عنـّي مسافةً طويلةً .
أشعرُ باقترابِ الجنودِ منـِّي , وأُحسُّ بيدِ أحدِهم تُمسكُ بياقتي منَ الخلفِ وتشـدُّني بقوّةٍ فأسقطُ وأتدحرجُ مثلَ كرةِ الصوف التي نلعبُ بها في الأزقَّةِ ..
أفتحُ عينيَّ فأرى أربعةَ جنودٍ صهاينةٍ تحلّقوا حولَ جسديَ الـمُرمى على الأرضِ وقدْ حجبَ رأسُ أحدِهم الشمسَ عنّي , وانهالَ آخرُ عليَّ يشتمني بالعبريـّةِ ,بينما قامَ ثالثٌ برفسي على كاملِ وجهيَ بحذائـِهِ العسكريّ الصلبِ ثمَّ انتشلني عن الأرضِ ممسكاً بثيابي بيدٍ واحدةٍ كمنْ أرادَ أنْ يستعرضَ عضلاتِهِ أمامَ حشدٍ منَ الجمهورِ.
جرُّوني إلى السيّارةِ أحياناً وقاموا بدفعي أحياناً أُخرى , وما إنْ وصلتُ خلفَ السيّارةِ المنتظرةِ في الشارعِ المجاورِ حتَّى عادَ صاحبُ العضلاتِ إلى الإمساكِ بسترتي وقذفني إلى داخلها, وهناكَ جاءَ السائقُ وقيَّدَ يديَّ إلى حلقةٍ متدلّيةٍ منْ سقفها ..
في الخارجِ , اقتربَ شيخٌ منْ أحدِ الجنودِ بلطفٍ وقالَ بصوتٍ مُستجْدٍ :
"
دعوهُ ! إنـَّهُ مجردُ طفلٍ ! "
لكنّهُ سرعانَ ما تلقـَّى دفعةً منْ أحدهم وسيلاً منَ الشتائمِ منْ آخر..
هذهِ هيَ حالُ الصهاينةِ! لا يحترمونَ شيخاً مسنـَّاً ولا امرأةً ولا طفلاً! جميعنا أعداءٌ لهم ويرغبون أشدَّ الرغبةِ في تصفيتنا تحتَ ذرائعَ متعدّدةٍ ..
جمّعوا في العربةِ أربعةً منّا بالطريقة ذاتها .. ثلاثةَ أطفالٍ .. ثمَّ شابّاً تضرَّجَ وجهُهُ بالدماءِ حتَّى تعذَّرتْ عليَّ معرفتُهُ ! صيدٌ ثمينٌ .. هُمُ الصيّادون ونحنُ الطرائدُ ..
سمعتُ الجنديَّ الجالسَ إلى جانبِ السائقِ يتحدَّثُ عبرَ الجهازِ اللاسلكيّ :
- "
اصطدنا أربعةَ كلابٍ . "
أجابه الشابُّ وقدْ تناثرتْ قطراتُ الدمِ منْ فمهِ ممزوجةً بلعابِهِ :
- "
بلْ قلْ أربعةَ سباعٍ !! "
وما كادَ ينهي جملتَهُ حتَّى تلقَّى ضربةً بأخمصِ بندقيَّةِ الجنديّ الواقفِ خلفَ العربةِ أفقدتْهُ الوعيَ فسقطَ رأسُهُ متدلّـياً بينَ ذراعيهِ المعلقتين إلى سقفِ السيّارةِ التي انطلقتْ بنا فجأةً بعدَ أنْ اشتدَّ هطولُ الحجارةِ عليها متوجّهةً إلى شارعٍ هادئٍ حيثُ توقفتْ ونزلَ السائقُ منها ليعصبَ أعيُنَنا قبلَ أن يعاودَ الانطلاقَ منْ جديدٍ .
كنتُ قدْ أمعنتُ النظرَ إلى الحجيرةِ التي رُبطنا إلى سقفها كذبائحِ المسلخِ.. يبدو أنَّ مثلَ هذهِ السياراتِ قد خُصّصتْ للاعتقالِ , فالبابُ لا يفتحُ إلاّ منَ الخارجِ , وهناكَ شبكٌ فولاذيٌّ يفصلُ حجيرتَنا عنِ الكرسيّين الأماميّين , ناهيكَ عنْ هذهِ الحلقاتِ اللعينةِ التي تثبـّتُ الأصفادَ إلى السقفِ ..
توقفتِ السيارةُ وفُتحَ البابُ الخلفيُّ , وأحسستُ بيدينِ تحررانِ يديَّ منْ حلقةِ التثبيتِ وتعيدانِ تكبيلَهما خلفَ ظهري . ثمَّ سمعتُ صوتاً يأمرُ بالنزولِ , ولمّا لـمْ أنتبهْ إلى أنَّ هذا الأمرَ كانَ موجّهاً إليَّ تحديداً وتقاعستُ عنِ التنفيذِ أحسستُ بآلافِ الأيادي التي تشبهُ الخطّافاتِ تنتزعُني منْ على المقعدِ وترميني خارجاً فأسقطُ أرضاً وأتلقّى عدّةَ رفساتٍ على الظهرِ والرأسِ , أفقدُ الوعيَ على أثرِها لفترةٍ أجهلُ كَمِ امتدَّتْ ..
أصحو لأجدَ نفسيَ مقيّداً على كرسيٍّ والعصابةُ لازالتْ مثبّتةً فوقَ عينيّ , وصوتٌ يسألني بالعبريَّةِ:
- "
ما اسمُكَ ؟ "
أُجيبُ بالعربيّةِ :
- "
اسمي رعد محمّد الأحمد ."
- "
أَجِبْ بالعبريّة ! كمْ عمركَ ؟ "
أُجيبُ بالعربيّةِ :
- "
اثنتا عشرةَ سنةً . "
أتلقّى صفعةً على الخدِّّ الأيسرِ .. ثم ذاكَ الصوتُ منْ جديدٍ :
- "
قلتُ أَجبْ بالعبريّةِ ! .. لحسابِ منْ تعملُ ؟ "
أُجيبُ بالعربيّةِ :
- "
لـمْ أفهمْ سؤالَكَ !! "
يكرّرُ سؤالَهُ فأكرّرُ الإجابةَ ذاتها فيقولُ منفعلاً :
- "
لكنّكَ أجبتَ عندما سألتُكَ , هذا يعني أنّكَ تتقنُ العبريّةَ."
- "
أنا أفهمُ بعضاً منَ العبريّةِ لكننّي لا أستطيعُ التحدثَ بها ! "
يقولُ بالعربيّةِ وقدْ هدأتْ نبرتُـهُ :
- "
حسناً , لقدْ سألتُكَ : في أيَّةِ جماعةٍ تعملُ ؟
- "
لا أنتمي إلى أيـّةِ جماعةٍ , لقدْ كنتُ اليومَ عائداً منَ المدرسةِ فصادفتُ الاشتباكاتِ تحدثُ في الشارعِ .. "
يقاطعني قائلاً :
- "
وسرعانَ ما أمسكتَ بالحجارةِ وقذفتَ بها دوريـَّتنا ! أليسَ كذلكَ ؟ "
- "
نعم , هذا ما حدثَ تماماً ."
- "
جميعُكم كاذبون .. كلـُّكم تقصّونَ الحكايةَ ذاتها .. لكننّي لا أصدّقُكَ !! "
- "
هذهِ مُشكلتُكَ إذاً ! "
أتلقَّى صفعةً جديدةً على الخدّ ذاته وأعتقدُ أنـَّها من اليدِ ذاتها .. يبدو أنَّ جنديّـاً كان واقفاً بالقربِ منّي مهمَّتُهُ الصفعُ والضربُ , وآخرَ كان بعيداً يسألُ :
- "
اسمعْني جيّداً أيها الأرنبُ ! إنْ كنتَ تريدُنا أن نفرجَ عنكَ فوراً لتعودَ إلى أُمــّكَ , فعليكَ أن تصرّحَ لنا بكلِّ شيءٍ ومنْ دونِ خداعٍ .. واعلمْ أننا نعرفُ أدقَّ التفاصيلِ لكنّنا نريدُ أن نسمعَها مِنْ قِبَلِكَ لكي تثبتَ لنا حُسنَ نواياكَ ! وبالمقابلِ فلنْ يكونَ الإفراجُ عنكَ فحسب بل إنــّنا سنعطيكَ بعضَ المالِ لتتمكَّنَ منْ شراءِ ملابسَ جديدةٍ .. وحلوىً.. وفاكهةٍ فما هوَ ردُّكَ ؟ "

- "
لـمْ أكذبْ في شيءٍ حتّى الآنَ ! سألتَني وأجبتُكَ بكلِّ صراحةٍ ولستُ في حاجةٍ لأثبتَ لكَ حُسنَ نوايايَ أو العكس لأنــَّكَ تعلمُ تماماً أنَّكُمْ أعداءٌ لنا ولو كنتمْ غيرَ ذلكَ لما عاملتمونا على هذا النحوِ ! "
- "
لا , لا , لـمْ أصدّقْ روايتـَكَ ! عليكَ أن تخبرَني أينَ اجتمعتم البارحةَ وكيفَ خطّطتم لمهاجمةِ دوريّـتِنا ومنِ الذي دعاكم للاجتماعِ ومن خطّطَ لكلِّ هذا .. هيـَّا , أخبرْني ! "
- "
لـمْ أجتمعْ مع أحدٍ ولم أُخطّطْ لأيّ شيءٍ ! هكذا بكلِّ بساطةٍ قمتُ بقذفِ دوريــَّتِكم بالحجارةِ لأننّي شاهدتُكم تهاجمونَ أصدقائي وأبناءَ حارتي وتطلقونَ الرصاصَ المطّـاطيَّ والحيَّ على الجموعِ بشكلٍ عشوائيٍّ و.. "
- "
هلْ تريدُ أنْ تقنعَني أنَّ دماغَ الهرِّ الذي في رأسِكَ توصَّلَ لكلِّ هذا منْ دونِ مساعدةٍ منْ أحدٍ ؟ لابدَّ أنَّ أحداً قدْ حرَّضَكَ على فعلِ ذلكَ ! أو على الأقلِّ قدْ علَّمكَ كيفَ تفعلُهُ ! هيّا .. أريدُ اسماً.. اسماً واحداً فقطْ وأُخلي سبيلَكَ ! "
- "
أنتمْ محتلّونَ ! اغتصبتمْ أرضَنا وشرَّدتمْ أهلَنا وقتلْتمْ أبي وسجنتمْ أخي وتفعلونَ المزيدَ كلَّ يومٍ .. وتريدُني أنْ أنتظرَ تحريضاً منْ أحدٍ ما ؟ "
- "
منْ هوَ أخوكَ ؟ "
- "
إنـَّهُ البطلُ كرم محمّد الأحمد ! "
يضحكُ ساخراً ويقولُ :
- "
البطلُ؟ "
وأكتشفُ أنَّ هناكَ أكثرَ منْ جلاّدٍ يحيطونَ بي عندما علا صوتُ ضحكاتِهم حتّى كادوا يهترؤونَ ضحكاً,.. قلت.. إنّهُ بطلٌ , وهو معتقلٌ منذُ أكثرَ منْ عامٍ بتهمةِ مقاومةِ الاحتلالِ
- "
تقصدُ مقاومةَ جيشِ الدفاعِ ؟! "
-
لا .. بلْ مقاومةَ الاحتلالِ . "

أتلقّى صفعةً جديدةً على الخدِّ الأيمنِ وأُخرى على الأيسرِ, ويتابعُ المحقـّقُ بصوتٍ تخيّلتُ أنـّهُ نباحُ كلبٍ:

- "
تذكّرتُ ذلكَ الأرنبَ ! لقدْ رشقَ دوريـَّـتَنا بالحجارةِ .. أنتمْ مجانين ! ترشقونَ سيّاراتـِنا المصفّحةَ بالحجارةِ في حين يعجزُ الرصاصُ عنِ اختراِقها ! على كلِّ حالٍ لقدْ حُكمَ عليهِ بالسجنِ لأربعِ سنواتٍ ! "
- "
وهلْ لديكمْ محاكمُ فعلاً أمْ أنَّّكمْ تطلقونَ أحكامَكمْ جِزافاً؟"
يضحكونَ منْ جديدٍ .. ثمَّ يقولُ المحقّقُ :

- "
يجبُ أنْ تعلمَ أنَّ مقاومةَ جيشِ الدفاعِ ستعرّضُكَ للسجنِ وربَّما للإعدامِ ! وليسَ عليكَ الآنَ سوى إخباري باسمِ المخرّبِ الذي يقودكمْ .. "

قرَّرتُ عندَها , وتحتَ وطأةِ الألمِ و الإهانةِ أنْ أُلقّـنَ ذلكَ المجرمَ درساً لا يُنسى فقلتُ بنبرةِ المتحدّي الجسورِ :
- "
لماذا لا تنزعُ أصفاديَ وعصابةَ العينينِ ؟ هلْ تخشى مِنْ نظراتي ؟ هلْ تخشى أنْ أهربَ ؟ ما أنا سوى طفلٍ صغيرٍ ! هلْ يخشى الثعلبُ من أرنبٍ ؟ "

خيَّمَ صمتٌ كئيبٌ على المكانِ , وتخيّلتُ أنّـَّهم يتبادلونَ نظراتِ التشاورِ فيما بينهمْ وتوقعّتُ أن أتلقّى صفعةً جديدةً أو رفسةً مِنْ حذاءِ أحدِهمْ .. وانقشعَ الظلامُ عندما أزالَ أحدُهمْ العصابةَ عَنْ عينيَّ بينما راحَ آخرُ يفكُّ الأصفادَ .
نظرتُ إلى وجوهِهِم الشرّيرةِ وعيونهِمِ الحاقدةِ وتجوّلتُ بناظريَّ في أرجاءِ الغرفةِ ووجدتُ نفسيَ أحدّقُ بالضابطِ الجالسِ على كرسيٍّ دوَّارٍ خلفَ مكتبٍ منْ خشبِ يافا المنجورِ.. كانَ يضعُ قدميهِ فوقَ زجاجِ المكتبِ ليلامسَ حذاؤُهُ العلمَ الإسرائيليَّ المتوضعَ هناكَ على قاعدةٍ معدنيّةٍ صغيرةٍ وإلى جانبهِ لوحةٌ صغيرةٌ كُتِبَ عليها بالعبريّةِ ( الملازم رفائيل مزراحي ) .. إنـَّهُ المحقّقُ ! عرفتُ صوتَهُ حالما نطقَ :
- "
ها قَدْ لبَّيْنا لكَ أمنيَتَكَ ! ماذا الآنَ ؟ "
- "
مِنْ خلالِ أسئلتِكَ عرفتُ غايتَكَ ! وسأُخبرُكَ الآنَ بكلِّ شيءٍ , ولكنْ إِنْ أرادَ هذا الجلاّدُ صفعي فعليهِ أَنْ يجمّعَ صفعاتِهِ ريثما أُنهي كلاميَ وينفّذَ ذلكَ دفعةً واحدةً ! اتفقـّنا؟"
- "
حسناً .. لكَ ذلكَ . "
- "
ولدتُ هنا في نابلس , وتفتّحتْ عينايَ في هذهِ الأرضِ على مشاهدةِ جنودِكمْ يدمّرونَ قرانا ويجرفونَ أشجارَنا , ورأيتُ دبّاباتِكمْ تقتحمُ منازلَنا وتهرسُ أغراضَنا وتسحقُ ُكـتـبَنا ودفاترَنا وحقائبَنا المدرسيَّةَ .. وكنتُ في الصفِّ الأوّلِ عندما دخلَ جلاّدوكم إلى صفّنا وسرقوا معلّمَنا وهو يحملُ الطبشورةَ في يدِهِ حتّى بعدَ أنْ كـبَّلوهُ وأهانوهُ أمامَ ذعرِنا! وشهدتُ بأم عينيَّ دخولَ عصابةٍ منكمْ ليلاً إلى بيتِنا لتحطّمَ كلَّ محتوياتِهِ وتطلقَ النارَ على والدِي أمامَ أعينِنا .. وشاهدتُ كيفَ سِيقَ أخي كرم إلى سيَّارةِ الدوريَّةِ جرّاً مِنْ قدمَيْهِ ..
هلْ تعتقدُ أيـُّها الملازمُ أنـَّني أحلمُ بثيابٍ جديدةٍ وبحلوىً وفاكهةٍ؟ هلْ هذا ما دفعَكَ لتعرضَ عليَّ نقوداً ؟ نحنُ هنا لا نملكُ أحلاماً كالتي تراودُ أطفالَ العالمِ ! لقدْ حطَّمتمْ طفولـَتنا وصادرتُمُ الفرحةَ منْ أحلامِنا حتَى بِتْنا لا نحلمُ بالأراجيحِ في ليالي العيدِ بَلْ بإنهاءِ عذابِنا وبؤسِنا واستعادةِ حـقـّنا في الحياةِ الكريمةِ وإعادةِ الخضرةِ إلى أشجارِ الزيتونِ الباكيةِ , ولنْ يكونَ لنا ذلكَ إِلاّ في مقاومتِكُمْ !
نرشقُ سيّاراتِكم بالحجارةِ , ليسَ أملاً في تحطيمها لأنّنا نعلمُ مدى تصفيحِها , بلْ لنعبّرَ عن إرادتِنا في رفضِكُمْ ..
- "
كلُّ هذا الهراءِ ولم تعطِنِي بعدُ اسمَ رئيسِ العصابةِ التي تنتمي إليها ! هيـَّا .. هلْ سَتُخِلُّ بالاتفاقِ ؟!
- "
لا .. ليسَ هذا مِنْ شِيَمِ العربِ ! إنَّ المخرّبَ الإرهابيَّ الكبيرَ الذي حرَّضني على رشقِ دوريـَّـتِكمْ بالحجارةِ يُدعى رفائيل مزراحي ."
ولم أكدْ ألفظُ الاسمَ حتَّى هجمَ الجلاّدونَ دفعةً واحدةً يصبُّونَ جامَ غضبِهِمْ عليَّ ويوسعونني ضرباً مبرّحا..ً وينطفئُ نورُ الغرفةِ ليشرقَ وجهُ أُمّيَ الملائكيُّ فأستيقظُ على نغْماتِ صوتِــها القيثاريِّ وأدركُ أنّني كنتُ في حُلُمٍ طويلٍ :
- "
ما بكَ يا رعدُ ؟ هلْ كنتَ في حلمٍ ؟ منذ مدّةٍ وأنا أحاولُ إيقاظَكَ ! هيّا .. ستتأخرُ!"
- "
لنْ أذهبَ إلى المدرسةِ اليومَ يا أُمّي ! "
- "
ماذا ؟ هلْ أنتَ مريضٌ ؟ هلْ نسيتَ كتابةَ وظاِئفِكَ ؟ "
- "
لا هذا ولا ذاكَ ! بلْ سأتوجَّهُ إلى الاشتباكاتِ
- "
ماذا ؟ هلْ تريدُ الانضمامَ إلى أخيكَ في السجنِ ؟ "
ما نحن فيه سجن أكبر من كل سجون العالم, أريد الانضمام الى شعبي , بلركيني يا أمي......باركيني